السعودية والتعامل مع الأزمات الاقتصادية

بقلم د. عبد العزيز بن محمد العواد

الأزمة الاقتصادية هي حالة من الكساد والتباطؤ والركود نتاج أزمة مالية يتبعها عقبات وخيمة كإنخفاض الناتج المحلي ونقص السيولة وتأرجح بالأسعار نتيجة التضخم والانكماش، مما يؤدي لإرتفاع نسب العجز والبطالة، وفي ظل الأزمات الكبرى والتحديات المصيرية يكون أمام كل دول العالم خياران لا ثالث لهما، الشفافية في المعلومات والمواجهة أو تجنّبهما من خلال التضليل والشعارات المضللة، فالخيار الأول صعب ويفرض كل التحديات على الطاولة ويتطلب تماسكاً مجتمعياً وقدراً كبيراً من إيمان المواطنين لتحمّل صعوبات المرحلة، والخيار الثاني سهل ومريح ويقدم حلولاً مؤقتة وبهجة لرؤية سراب الوهم الذي سرعان ما يضمحل مع أول انكشاف أمام أشعة شمس الحقيقة حين تخففها.

إن جائحة كوفيد – 91 المستجد وما تبعه من عواقب اقتصادية لم يكن الأزمة الأولى في عمر السعودية، فقد واجهت السعودية عدد من الأزمات الاقتصادية بسبب انهيارات أسعار النفط المتلاحقة، والتي تجاوزتها – بفضل الله – بسلام ، فقد أدت سياسات التكيف المالي والاقتصادي عبر تلك السنوات وارتفاعات أسعار النفط مرة أخرى الى الخروج من تلك الأزمات، ففي عام 1986 انهارت أسعار النفط عالمياً إلى أقل من 10 دولار، وفشلت منظمة ” الأوبك” حينذاك في التوصل إلى اتفاق لخفض الإنتاج فانخفضت الإيرادات العامة من 82 مليار دولار إلى 58 مليار دولار، فتم إصدار سندات خزينة للمرة الأولى في عام 1987، وزيادة الرسوم الجمركية على الواردات، باستثناء المواد الأساسية، وهو ما ساهم في تخفيف العبء عن كاهل الخزينة وعبور الأزمة حينها .

وفى عام 1994 انخفض سعر النفط إلى ما دون 13 دولار للبرميل، فقامت الحكومة برفع أسعار الخدمات الحكومية والبنزين والماء والكهرباء فزادت الإيرادات الغير نفطية بنسبة 22%، الأمر ذاته حدث مع أزمة النمور الاسيوية عام 1997 وما تبعها من الأزمة النفطية عام 1998 وكانت من أشد وأقوى الأزمات الاقتصادية التي مرت بها السعودية على مر عصورها ويرجع السبب الرئيسي فيها لانخفاض متوسط سعر البترول بسبب الأزمة الأسيوية لدول جنوب شرق أسيا وانهيار عملاتها مما أدى لانخفاض الطلب على البترول، وهوت أسعاره إلى مستويات متدنية وصلت إلى نحو 10 دولار للبرميل، أدى ذلك لانخفاض هائل في الإيرادات البترولية. وقد بلغ معدل الدين العام للمملكة خلال الأزمة 566 مليار ريال، وأصدر صندوق النقد الدولي حينها تقرير حذر فيه السعودية من المشاكل المترتبة على ارتفاع الدين العام وانخفاض سعر البترول وما سيتبعها من عواقب وخيمة، فاتخذت الحكومة السعودية إجراءات مشابهة لأزمة عام 1994 وتعافت الميزانية مع تصاعد أسعار النفط بعد ذلك بفترة.

وفي الأزمة المالية العالمية عام 2008 الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير عام 1929 والتي ضربت الاقتصاد العالمي وسبب انهيارات مالية وافلاس لبنوك عملاقة في الولايات المتحدة ثم أوروبا وتضررت اقتصادات الدول بشدة، لعبت سياسات التكيف المالي والاقتصادي دوراً هاما في عبور الأزمة، فقد أطلقت السعودية مبادرة دعم برنامج الاستثمار في القطاعين الحكومي والنفطي، وزيادة الإنفاق على مشاريع الخدمات الأساسية لتعزيز قدرة القطاع الخاص، وأثبتت تلك الأزمة قدرة الاقتصاد السعودي – بفضل الله – على تحمل الصدمات وتجاوز آثارها.

وفي عام 2014، مرت السعودية بأزمة اقتصادية كبيرة، والتي كان من أهم أسبابها انهيار أسعار النفط بين 28 و50 دولار، وكان النفط في ذلك الحين يمثل 90% من عائدات التصدير، وقد تأثر اقتصاد السعودية بعد هبوط أسعار النفط تأثراً شديداً، وتمثل هذا التأثير في العجز الذي واجهته الحكومة بموازنتها لأول مرة في العام 2015، والذي وصل لنحو 98 مليار دولار؛ وهو ما دفع الحكومة لمواجهة ذلك بوضع موازنات في الأعوام التالية، تعتمد على ترشيد الإنفاق الحكومي من خلال اتخاذ عدد من الإجراءات لزيادة الإيرادات غير النفطية، ورفع أسعار المشتقات النفطية والكهرباء والمياه، وزيادة رسوم التأشيرات وبعض الخدمات البلدية، بالإضافة إلى استحداث رسوم جديدة مثل تأشيرة الزيارة والمقابل المالي على الشركات التي تستقدم عمالة أجنبية. وكان الحدث الأبرز إطلاق رؤية 2030 للخروج بالسعودية من عصر الاعتماد الكلي على النفط الى عصر تنويع مصادر الدخل وتنمية رأس المال البشري السعودي.

وما لبث الاقتصاد السعودي أن يلتقط أنفاسه حتى تأثر مرةً أخرى في عام 2020 بجائحة كوفيد – 19، والتي ضربت أكبر الاقتصادات في العالم، ومنها الاقتصاد السعودي بالطبع فهو الاقتصاد الأكبر عربياً، وبالتالي عانى الاقتصاد من أزمة مزدوجة لها محورين المحور الأول هو انخفاض النشاط الاقتصادي داخل المملكة بسبب الإجراءات الاحترازية الخاصة بجائحة كوفيد – 19 وإغلاق المنشآت وتوقف الحج والعمرة، والثاني الانهيار الكبير في أسعار النفط بسبب الاغلاقات في الاقتصادات الكبرى وانخفاض الطلب على النفط، فقد وصل سعر البرميل في بعض الفترات في عام 2020 إلى أقل من 20 دولار. وبالرغم من ذلك تؤكد الأرقام أن اقتصاد السعودية يسير في اتجاه التعافي ولله الحمد من آثار تلك الأزمة الاقتصادية، ونشير إلى عدد من المحاور لتجاوز الأزمة واستعـادة وتيرة النمو الاقتصادي.

المحور الأول هو المحافظة على معدل نمو إيجابي للناتج المحلى الإجمالي هذا العام 2021 أمر هام للغاية لسرعة تجاوز الأزمة الاقتصادية، فالتوقعات تشير هذا العام الى نمو يبلغ 3.2% من الناتج المحلى الإجمالي بعد أن سجل انكماشا في العام الماضي بلغ -3.7%، يتزامن مع هذا النمو ضرورة زيادة الانفاق الاستهلاكي والاستثماري من الحكومة فالاستهلاك هو محرك الاقتصاد، وتخفيض الضرائب الحالية لخفض معدلات التضخم والتي سجلت في النصف الأول من العام الحالي 2021م، نسبة مرتفعة بلغت 6.2%، مع تنفيـذ الإصلاحـات الهيكليـة لتنويـع الاقتصـاد مـن خلال برامـج رؤية 2030 وتحسـين بيئـة الأعمـال وفتـح آفـاق جديدة أمام الاستثمار المحلي والأجنبـي، إضافـة الى الدعم المقدم من الصناديق التنموية وتنفيذ المشروعات الكبرى وبرامــج التخصيص.

المحور الثاني هو ضرورة حماية القطاع الخاص من خلال الانعاش الاقتصادي للمنشآت الصغيرة والمتوسطة لأنها تشغّل أكبر كمية من القوة العاملة، ونشير هنا إلى جهود الحكومة في ظل جائحة كوفيد – 19، في هذا المحور ، فلم تدخر السعودية جهداً في دعم القطاع الخاص وتحفيزه ليكون شريكا أساسيا حقيقياً ضمن مستهدفات رؤية 2030 ليحقق عائدا مهما في الناتج المحلي الإجمالي بمستهدف يصل نسبته إلى أكثر من 60٪، حيث أقرّت الكثير من المبادرات والقرارات التي عملت على حفظ حقوق العاملين، ودعم جاذبية السوق، وزيادة فرص التوطين بالقطاعات الرئيسية ومبادرة تحسين العلاقة التعاقدية، وإقرار الحد الأدنى للأجور، بما يعود بالكثير من الفوائد على السوق السعودي على المدى المتوسط والبعيد، حيث يكتسب السوق ثقة العاملين والمستثمرين سواء بالداخل أو الخارج، وسيكون أكثر انفتاحًا وقابلية للتعامل مع العمالة والشركات الأجنبية، حسب ما أشار بيان الخارجية الامريكية مؤخراً حول مناخ الاستثمار في المملكة، ومدى تطور بيئة العمل الاقتصادي بالمملكة حيث أصبح أكثر جاذبية للمستثمرين.

وننتقل هنا إلى نقطة غاية الأهمية وهي الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها سوق العمل السعودي منذ عقود، فبالرغم من معدلات النمو الكبيرة التي حققتها السعودية عبر سنوات عدة إلا أن معدلات البطالة عبر تلك السنوات ظلت مرتفعة، ففي العام الماضي 2020، على سبيل المثال شهد السوق مغادرة عدد كبير من العاملين الأجانب، وتراجع عدد التأشيرات الجديدة التي تصدر للقطاع الخاص، وزاد توطين الوظائف، في حين أن معدل البطالة الإجمالي بين المواطنين وصل إلى 11,7٪ في الربع الأول من 2021، الأمر الذي يتطلب معالجة جذرية متوازنة ومتسقة مع ضرورات النمو الاقتصادي والتغييرات في هيكل سوق العمل.

المحور الثالث هو المحافظة على عدم ارتفاع معدلات الدين العام الحالية والتأكيد على شرعيته، فبحسب تقديرات وزارة المالية السعودية فقد وصل رصيد الدين العام نحــو 754 مليــار ريــال، تمثل 26.6 % مــن الناتــج المحلـي الإجمالـي، نهايـة العـام 2020، فيما يتوقـع أن يصـل الدين العام إلـى نحـو 937 مليـار ريـال، أي نحو 32.7 % مــن الناتــج المحلــي بنهايـــة العام 2021 على أن يبلغ 1.06 تريليون ريــال فــي العــام 2023 تمثل 31.7 %مــن الناتــج المحلــي الإجمالـي. وهـي مسـتويات تقـل بشـكل ملحـوظ عـن السـقف المحـدد للديـن العـام عند 50 % مـن الناتـج المحلـي الإجمالـي. ولكن تشير البيانات أيضاً إلى أن معدل نمو الدين العام خلال عام 2020 بنسبة 26% مقارنةً بحجم الدين خلال عام 2019، حيث كان المستهدف لنمو الدين العام بنحو 11.2% قبل الجائحة.

وختاماً، لابد أن نؤكد أننا نعيش في ظل ظروف استثنائية، يشوبها حالة من عدم اليقين حول الاثار الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كوفيد – 19، وصعوبة توقع المدة الزمنية للتعافي من الأزمة، وبالتالي فإن من أهم الأولويات لدى الحكومة السعودية هي استعـادة وتيرة النمو الاقتصادي، وتعزيز منظومـة الـدعم والإعـانـات الاجتمـاعيـة والخـدمـات الأساسية، وتبني سياسات أكثر ملائمة في الموازنة بين النمو والاستقرار الاقتصادي والاستدامة المالية علـى المـدى المتوسـط والطويـل، مع الاستمرار في جهود تنمية الإيرادات غير النفطية ورفع كفاءة الإنفاق وترشيده، وزيادة مستوى مشاركة القطاع الخاص.